لا
نزال في سيرة المصطفى
r نحاول أن نقف عند بعض المقاطع في سيرته العطرة التي تشكل أسبابً للتأسّي والاقتداء
كما قال تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). إنتهينا
في الحلقة الماضية من تلك الرحلة الشاقة التي بدأها النبي
r من مكة إلى المدينة بصحبة صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه (ثاني إثنين إذ هما في
الغار) ورأينا أن تلك الهجرة لم تكن سهلة وإنما تخللها بعض الصعاب التي دللها الله
تعالى بعظيم قدرته وخارق علمه. إنتهت الرحلة بما جرى فيها من أحداث ووقفنا عندها
جزءاً جزءاً وقد وصل النبي
r إلى المدينة وكان أهلها ينتظرونه وجاءهم الخبر أنه قادم إليهم وكانوا يخرجون إلى
الثنايا (ثنية الوداع) كل صباح يشرفون على الطريق القادم من مكة فإذا يئسوا من
وصوله ذلك اليوم عادوا إلى منازلهم. وفي يوم الإثنين 12 ربيع الأول عاد المسلمون
إلى منازلهم بعد أن أوشك النهار أن ينقضي حيث لم يلح في الأفق أن المهاجريْن قد
وصلا فما أن استقر المسلمون في بيوتهم حتى جاءهم المنادي يقول: خذا جدّكم قد وصل
وكان هو حبر من أحبار اليهود في المدينة صاح: أيها المسلمون هذا جدّكم قد وصل. فعاد
المسلمون من بيوتهم وأسرع الناس إلى رسول الله
r وكان الوصول جميلاً وكان الإستقبال حافلاً مما سرّ النبي
r وأدخل الفرحة على قلبه حيث أن الإسلام غطّى المدينة كلها وأقيمت فيها صلاة الجمعة
قبل أن تقام في مكة. وتفاصيل الإحتفال وما قابله به الناس
r من الأهازيج والأناشيد والترحاب معروف لدى المسلمين.
وفي
غمرة الفرح الشديد الذي سرّ قلب النبي
r فتح الله عليه فتحاً وأراد أن يبشرهم بشترة تجمع لهم خير دينهم ودنياهم فخاطبهم
خطاباً موجزاً أراد منه أن يكون سهلاً في حفظه سهلاً في تطبيقه فقال: "أيها الناس
أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلأوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا
الجنة بسلام". أربع عبادات جاءت على لسام النبي
r في هذا المشهد الهائل وسط هذه الفرحة التي ملأت القلوب أهداهم النبي
r هذه العبادات لأنها جماع الدنيا والآخرة:
أولاً: إفشاء السلام: أن تسلم على من تعرف ومن لا تعرف لأن السلام بين الناس يعني أن المجتمع الناس فيه
متحابون متماسكون فيهم الأمن والأمان بعيدون عن الخصام والشحناء والبغضاء وما من
شيء يخشاه الرسول
r على أمته كالبغضاء فقد قال
r:
"دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر
والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم
بأمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم" وفي السابق كان الناس يسلمون على
بعضهم البعض من الشارع وفي الحديث عنه
r " لا تقوم الساعة حتى يكون السلام على المعرفة" فمن علامات الساعة أن لا يسلم الناس
إلا على الذي يعرفونه. فالسلام صلاح المجتمع فإذا رأيت السلام يشيع بين أفراد
المجتمع يحيي بعضهم فاعلم أن المجتمع صالح.
ثانياً: إطعام الطعام: مهما كان طعامك قليلاً يسيراً أطعم أحداً من الناس، ضعيف، جار، قريب، صديق. والطعام
فيه صلاح لنفسك كما أن السلام فيه صلاح للمجتمع والشارع والمحلّة. النفس المريضة هي
التي تأبى أن تطعم الطعام أما النفس السليمة فتطعم الجار والفقير المسكين وتطعم
الكلاب والقطط والحيوانات. المسلمون كانوا لا يهنأون إلا إذا شاركهم أحدهم في
طعامهم ولكي تسمو نفسك وتصح من كل عقدها وتصبح صالحة إذا وجدت نفسك سخياً في إطعام
الطعام ولا تتضايق إذا جاءك ضيف شاركك طعامك سواء تعرفه أو لا تعرفه. في الحديث "من
طبخ مرقة فليسكب عليها الماء ويطعم جاره". وفي السابق لم يكن أحد يأكل إلا إذا أرسل
لجاره طبقاً من الطعام ولو كان قليلاً والآخر يفعل الشيء نفسه وكانوا يسمونها
طُعمة. وهذا دليل على صلاح النفوس وسخائها. يقول
r:
" إن الله اصطفى هذا الدين لنفسه ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخُلُق فأكرموه بهما".
السخاء خُلُق الله الأعظم والسخاء إطعام الطعام. والله تعالى منّ علينا بمنّتين قبل
أن يأمرنا بالعبادة (فليعبدوا رب هذ البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
ثالثاً: صلة الأرحام: والأرحام هم الأقارب من الأصول والفروع والحواشي. هذه لصلاح أسرتك وعائلتك. كيف أنت
إذا كان عمك يكرهك وابن خالك وغيرهم ويعملون لك مشاكل؟ بصلة الأرحام تصفو
الأسرةويحصل بين أفرادها توادّ وتراحم وهذه أساسيات لتراحم الأسرة.
ورابعاً: الصلاة في الليل والناس نيام.
هذه لإصلاح علاقتك بالله تعالى.
فالسلام يصلح علاقتك بالناس "من سلّم أمِن" والذي يسلّم كثيراً لا يعتدي عليه أحد
لأنهم يأمنوه. قال تعالى (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ
لَسْتَ مُؤْمِنًا (94) النساء)، وإطعام الطعام يصلح نفسك والسخيّ لا يفعل إلا خيراً
"تجاوزوا عن ذنب السخيّ فإن الله يستره له في الدنيا ويغفره له في الآخرة". وصلة
الأرحام حتى تكون أسرتك متراحمة مترابطة. ةصلاة الليل لا بد أن الذي يصلي بالليل
يُحسن صلاته وعباداته ولا يقوم الليل إلا صالح كما قال
r " صلاة الليل دأب الصالحين من قبلكم".
لشدة
أهمية هذه العبادات الأربعة التي بشر بها النبي
r المسلمين في المدينة بعد الكرب الشديد الذي لاقوه في مكة ينبغي أن نعرف قدرها عند
الله تعالى بحيث لا نتجاهلها. كلنا اليوم نتساهل في مسألة السلام ولا يعلم الناس
أنهم تركوا عبادة عظيمة يغفر الله تعالى بها كل ذنوبك. علينا أن لا نقصر في هذه
العبادات الأربع إذا كنا نريد أن نتأسى بالرسول
r وقد كان
r حريصاً على هذه العبادات الأربع حرصاً شديداً بحيث لم يسبقه أحد.
إفشاء السلام:السلام من أسماء الله عز وجل ولا بد أن ننشره بيننا. يقول تعالى (وَإِذَا
حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ
كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) النساء) كم هو السلام مهماً بحيث أفرد الله
تعالى له آية بهذه القوة؟. عندما تقرأ الأحاديث الصحيحة التي تبين أهمية هذه
العبادة تعجب. القرآن عندما حدثنا أن لا نتوقف عند التحية فقط بل حثّنا على التحية
بأحسن منها لأنك كلما زدت على صاحبك التحية بلغت درجة لا تبلغها بالصلاة. جاء رجل
عند رسول الله
r فقال له: السلام عليكم فرد النبي
r:
وعليكم السلام وقال عشرة، وجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فرد
r:
وعليكم السلام ورحمة الله وقال عشرون، وجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته فردّ
r:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وقال ثلاثون، وجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته ومغفرته فردّ
r وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته وقال أربعون.
هذه
الآية في غاية الجد والتنبيه لأهمية السلام لذا حثّنا الله تعالى على أن نرد التحية
كاملة ونزيد فالمفروض أن نحافظ على السلام كما قال
r "أبخل الناس من بخِل بالسلام وأبخل الناس من ذُكِرت عنده فلم يصلي عليّ". عندما
تقرأ النصوص الصحيحة الواردة عنه
r في أهمية السلام تعجب لكن لا عجب إذا أمرنا الله تعالى بالسلام وسنّ لنا فرضية
السلام الذي إن لم تردّه فأنت آثم وكلما أحسنت ردّه كانت حسناتك أكثر. يقول
r:
"إذا التقى المسلمان فسلّم أحدهما على الآخر وتصافحا لم يفترقا حتى تحاتّ ذنوبهما
كما تحاتّ ورق الشجر عن الغصن" صافحه وتبسّم في وجهه. السلام بداية هو قول السلام
والابتسام والمصافحة. قال ربيعة: أبمصافحتهما يغفر لهما؟ قال: كأنك لم تقرأ قوله
تعالى (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً
مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) الأنفال) الله تعالى ألّف بين المسلمين حتى يتصافحوا. كم
بيننا من خلافات طائفية ومذهبية وفئوية وحزبية واقتصادية ومع هذا جعل الله تعالى
المسلمين لا يرى أحدهما أحداً إلا سلّم عليه إلا ما ندر. هذا أجر السلام والنبي
r بيّن لنا الدرجات منهم من يسلِّم فقط ومنهم من يسلّم ويبتسم ومنهم من يسلّم ويبتسم
ويصافح ومنهم من يسأل عن أخيه. الرحمة تنقسم على أكثرهما تساؤلاً عن صاحبه، كلما
زدت عليه السلام والمصافحة والإبتسام والسؤال ذهبت بأكثر الرحمات.
من
شدة عظمة هذه العبادة (إفشاء السلام) كان جديراً بالرسول
r أن يعلّمها لأصحابه، يقول
r:
"إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها قالوا: لمن يا رسول
الله؟ قال لمن أفشى السلام وأطاب الكلام". جاء رجل إلى رسول الله
r فقال: يا رسول الله علّمني عملاً يدخلني الجنة فقال
r:
أن تسلّم على من عرفت ومن لم تعرف." فكما جعل الله تعالى أعظم أنواع الغذاء في أرخض
الطعام جعل أعظم الأجر في أقل العبادات (السلام). ومن الأحاديث التي تدل على عظمة
السلام أن الله تعالى سلّم علينا عدة مرات مباشرة أو على لسان أنبيائه فقال تعالى
على لسان نوح (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ
وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا
عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) هود) وعلى لسان النبي
r (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54)
الأنعام) (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى
آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) النمل) يأمره بالسجود والشكر ويسلّم على
عباده. والملائكة منذ ولادتنا إلى موتنا وهم يبلغونا سلام ربنا تعالى (ادخلوها
بسلام) (تحيتهم يوم يلقونه سلام) (سلام عليكم بما صبرتم). التحية السلام وهي تحية
الجنة على هذه الأهمية وربما لا تبلغ هذه الأهمية عند بعض الناس حتى تساهلوا فيها
فيقولون عبارات عديدة منها صباح الخير ومساء الخير وبونجور وغيرها فهؤلاء يضيعون
على أنفسهم أجراً عظيماً لا تجده في عبادة أخرى. لذلك حرم الله تعالى البغضاء
فالمتخاصمان المتباغضان لا ترتفع صلاتهما فوق رأسيهما شبراً ولا يغفر لهما لا في
رمضان ولا في عرفة ولا في ليلة القدر. يحرم من المغفرة كل من بينه وبين أخيه مباغضة
أو شحناء. لمجرد امتناعك عن السلام على أخيك لخصومة لا ترتفع لك صلاة. وإذا سلّمت
أمِ،ت وأمِ، صاحبك وأول ما تسمعونه يوم القيامة عند دخول الجنة (سلام عليكم)
(تحيتهم فيها سلام). كلما زدت على صاحبك كما في الحديث بالابتسام والمصافحة والسؤال
"إذا إلتقى المسلمان قسمت بينهما سبعون رحمة 69 منها لأكثرهما بِشراً". والمصافحة
والتساؤل على حاله وحال أهله وهو من تمام التحية. وإذا قدم من مكان بعيد تعانقه
وتحتضنه والرسول
r إذا قدم من سفر إلتزم أصحابه وعانقهم. فالسلام هو أول العبادات التي وجّه النبي
r المسلمين ساعة ما لقيهم في المدينة. وقد حذّرنا
r من بعض الإشارات بالأصابع عند السلام إما بإصبع أو بإصبعين فهذا منهيٌ عنه لأنها
تحية اليهود.
إطعام الطعام:رب
العالمين منّ علينا بذلك قبل أن نعبده (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع
وآمنهم من خوف). علي بن أبي طالب فيه من الحسنات ما نعرفه وشخّص الله تعالى لنا
واحدة منها في قوله تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ
مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا) لأن علياً رضي الله تعالى عنه أعطى كل ما كان عنده
من طعام له ولأهله ثلاثة أيام متتالية (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ
مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (
الإنسان).
أعظم
أنواع الإطعام أن تؤثر الآخر بطعامك سواء كان محتاجاً أو جاراً أو ضيفاً أو غير
ذلك. جاء ضيف لرسول الله
r فقال من يضيف ضيف رسول الله فقال رجل أنا يا رسول الله فأخذه إلى بيته فقال الرجل
لزوجته ما عندنا من طعام؟ قالت المرأة: عندنا طعام الأطفال فقال لامرأته تظاهري أنك
تصلحين السراج فأطفئيه وقدموا الطعام للأعرابي وتظاهر الزوجان أنهما يأكلان فأكل
الضيف كل الطعام ونام أهل البيت والأطفال بلا طعام فلما ذهب الرجل للصلاة في الفجر
رآه النبي
r فقال: لقد ضحك الله تعالى من صنيعكما وفي رواية لقد عجب الله من صنيعكما.
قال
تعالى (فلا اقتحم العقبة) لا يجتازها إلا المخفّون ومن نوقش الحساب عُذِّب ومن نوقش
الحساب هلك. ومما يجعلك تجتاز العقبة بسهولة إطعام الطعام (أو إطعام في يوم ذي
مسغبة). قد لا يعرف بعض المسلمين في الدول الغنية هذا الإحساس بالجوع لكن هناك دول
إسلامية تكاد تموت جوعاً ولا يجدون شيئاً يأكلونه فلو كنت واحداً من هؤلاء وعندك
طعام قليل وبجانبك عشرات الناس يتضورون جوعاً فتؤثرهم على نفسك، في هذه العسرة تعطي
ما لديك. هناك فرق بين أن تعطي الطعام وأنت شبعان ولديك طعام وبين أن تعطي وأنت
جوعان. الله تعالى لا ينظر إلى كمّ ما تعطي لكن ينظر إلى كيف تعطي؟ بسماحة نفس
وبحُبّ. وقال
r:
" إتقوا النار ولو بشق تمرة" " إن الله يُربّي لأحدكم اللقمة والتمرة كما يربي
أحدكم فلوّه حتى تصير مثل أُحُد". لذا يتكلم تعالى عن الذين يطعمون الطعام كلاماً
عجباً وكذلك الأحاديث الصحيحة فإذا طرق بابك جائع فأطعمه والبيت الذي يكون فيه
إطعام للضيف يبارك الله تعالى فيه وفي رزقه